سُورَةُ المَسَدِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
«تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ»
بَيْنَ يَدَيِ السُّورَةِ
سُورَةُ المَسَدِ مَكِّيَّةٌ. وعَدَدُ آيَاتِهَا: خَمْسُ آيَاتٍ.
لها عِدَّةُ مُسَمَّيَاتٍ: فهِيَ سُورَةُ «المَسَدِ»، وسُورَةُ اللَّهَبِ، وسُورَةُ تَبَّتْ.
والسُّورَةُ كُلُّهَا مُحْكَمٌ، لَيْسَ فِيهَا نَاسِخٌ ولا مَنْسُوخٌ.
سَبَبُ النُّزُولِ
عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّفَا ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ: «يَا صَبَاحَاهْ»، فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ، قَالُوا: مَا لَكَ؟ قَاَل: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أُخْبِرُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ يُصَبِّحُكُمْ أَوْ يُمَسِّيكُمْ، أَمَا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي؟ « قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ». فَقَال أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَأَنْزَلَ اللهُ: «تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ».
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (1394)(4770)(4801)(4971)(4972)(4973).
مَعَانِي الْكَلِمَاتِ
(تَبَّتْ): يُقَالُ: تَبَّ الشَّيْءُ: إِذَا انْقَطَعَ، وَتَبَّ فُلانٌ: خَسِرَ وَهَلَكَ، وَيُقَالُ: أَتَبَّ اللهُ قُوَّتَهُ: أَضْعَفَهَا.
ومَعْنَى: «تَبَّتْ»: خَسِرَتْ، وَقِيلَ: خَابَتْ، وَقِيلَ، ضَلَّتْ، وَقِيلَ: هَلَكَتْ، وَلا مَانِعَ أَنْ تَجْتَمِعَ هَذِهِ الْمَعَانِي فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ.
(سَيَصْلَى): يَحْتَرِقُ بِهَا وَ»صَلِي» مِنْ بَابِ: «تَعِبَ»، يُقَالُ: صَلِيَتِ الشَّاةُ إِذَا شَوَيْتَهَا، وَيُقَالُ: شَاةٌ مَصْلِيَّةٌ: أَيْ مَشْوِيَّةٌ.
(ذَاتَ لَهَبٍ): ذَاتَ تَلَهُّبٍ وَاشْتِعَالٍ وَاحْتِرَاقٍ.
(الْحَطَبِ): مَا أُعِدَّ مِنَ الشَّجَرِ لِلْوَقُودِ.
(جِيدِهَا): عُنُقِهَا، وَالْجَمْعُ: أَجْيَادٌ.
(مَسَدٍ): الْمَسَدُ فِي كَلامِ الْعَرَبِ: الفَتْلُ، يُقَالُ: مَسَدَ الْحَبْلَ يَمْسدُهُ مَسْداً: إِذَا أَجَادَ فَتْلَهُ، وكُلُّ شَيْءٍ فُتِلَ مِنَ اللِّيفِ وَالخُوصِ فَهُوَ مَسَدٌ.
فَالْمَسَدُ هُوَ الْحَبْلُ الْمَضْفُورُ الْمُحْكَمُ الْفَتْلِ.
التَّفْسِيرُ
*(تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ): هَلَكَتْ وَخَسِرَتْ وَخَابَتْ وَضَلَّتْ يَدَا ذَلِكَ الْخَبِيثِ أَبِي لَهَبٍ، وَذَلِكَ لِعِنَادِهِ وَتَكْذِيبِهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَخَصَّ اللهُ –تَعَالَى– الْيَدَيْنِ بِالتَّبَابِ وَالْخُسْرَانِ، لأنَّ أَكْثَرَ الْعَمَلِ يَكُونُ بِهِمَا.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْيَدَيْنِ نَفْسُهُ، وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالْيَدِ عَنِ النَّفْسِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ» أَيْ: نَفْسُكَ، وَالْعَرَبُ تُعَبِّرُ كَثِيراً بَبَعْضِ الشَّيْءِ عَنْ كُلِّهِ.
*(وَتَبَّ): أَيْ: وَقَدْ هَلَكَ وَانْقَطَعَ ذِكْرُهُ مِنَ الدُّنْيَا، اللَّهُمَّ إِلاَّ عَلَى سَبِيلِ اللَّعْنِ وَالسَّبِّ، ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ. فَالأَوَّلُ: «تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ» دُعَاءٌ، وَالثَّانِي: «وَتَبَّ» إِخْبَارٌ، وَقَدْ وَقَعَ مَا دَعَا بِهِ عَلَيْهِ.
فَقَدْ رَوَى الطَّبْرَانِيُّ فِي «الكَبِيرِ» (1/308) وَالبَزَّارُ (9/318) مِنْ حَدِيثِ رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ إِسْلامِهِ هُوَ وَأُمِّ الْفَضْلِ وَالْعَبَّاسِ وَفِيهِ: «وَقَالَتْ: أَيْ عَدُوَّ اللهِ (تَقْصِدُ: أَبَا لَهَبٍ)، اسْتَضْعَفْتَهُ أَنْ رَأَيْتَ سَيِّدَهُ غَائِباً عَنْهُ؟ فَقَامَ (أَبُو لَهَبٍ) ذَلِيلاً، فَوَاللهِ مَا عَاشَ إِلاَّ سَبْعَ لَيَالٍ حَتَّى ضَرَبَهُ اللهُ بِالعَدَسَةِ –وَهِيَ بَثْرَةٌ تَخْرُجُ بِالبَدَنِ فَتَقْتُلُ وَهِيَ تُشْبِهُ الطَّاعُونَ-، فَقَتَلَتْهُ، فَلَقَدْ تَرَكَهُ ابْنَاهُ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلاثَةً مَا يَدْفِنَاهُ حَتَّى أَنْتَنَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ لابْنَيْهِ: أَلاَ تَسْتَحِيَانِ أَنَّ أَبَاكُمَا قَدْ أَنْتَنَ فِي بَيْتِهِ؟ فَقَالاَ: إِنَّا نَخْشَى هَذِه القُرْحَةَ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ يَتَّقُونَ «الْعَدَسَةَ» كَمَا يُتَّقَى الطَّاعُونُ، فَقَالَ رَجُلٌ: انْطَلِقَا فَأَنَا مَعَكُمَا، قَالَ: فَوَاللهِ مَا غَسَّلُوهُ إِلاَّ قَذْفاً بِالْمَاءِ عَلَيْهِ مِنْ بَعِيدٍ، ثُمَّ احْتَمَلُوهُ فَقَذَفُوهُ فِي أَعْلَى مَكَّةَ إِلَى جِدَارٍ وَقَذَفُوا عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ».
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي «مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ» (6/88): وَفِي إِسْنَادِهِ حُسَيْنُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ وَثَّقَهُ أَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ، وَضَعَّفَهُ جَمَاعَةٌ وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ.
*(مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ): أَيْ: لَمْ يَنْفَعْهُ وَلَمْ يُفِدْهُ مَالُهُ الَّذِي جَمَعَهُ، وَلاَ جَاهُهُ وَعِزُّهُ الَّذِي اكْتَسَبَهُ.
وَقِيلَ: (مَالُهُ): مَا وَرِثَهُ مِنْ أَبِيهِ، (وَمَا كَسَبَ): الَّذِي كَسَبَهُ بِنَفْسِهِ.
وَقِيلَ: (مَالُهُ): مَا جَمَعَهُ مِنْ رُؤُوسِ أَمْوَالِهِ، وَ(مَا كَسَبَ): مِنَ الأَوْلادِ فَإِنَّ وَلَدَ الرَّجُلِ مِنْ كَسْبِهِ.
*(سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ): سَيَذُوقُ نَاراً عَظِيمَةً ذَاتَ تَوَقُّدٍ وَاشْتِعَالٍ وَتَلَهُّبٍ، يُعَذَّبُ بِلَظَاهَا وَيُلْفَحُ بِحَرِّهَا، وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ.
*(وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ): أَيْ: وَسَتَصْلَى وَسَتَذُوقُ امْرَأَتُهُ أَيْضاً نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ، وَامْرَأَتُهُ اسْمُهَا: الْعَوْرَاءُ بِنْتُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ أُخْتُ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ، وَعَمَّةُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَكُنْيَتُهَا: أُمُّ جَمِيلٍ، وَقِيلَ: اسْمُهَا: أَرْوَى، واللهُ أَعْلَمُ.
وَلِمَاذَا وَصَفَهَا الْقُرْآنُ بـ «حَمَّالَةَ الْحَطَبِ»؟ قِيلَ: لأَنَّهَا كَانَتْ تَحْمِلُ حَطَبَ الشَّوْكِ وَالْحَسَكِ – ثَمْرَةٌ خَشِنَةٌ تَتَعَلَّقُ بِأَصْوَافِ الْغَنَمِ وَأَوْبَارِ الإِبِلِ- وَالسّعْدَانِ –شَوْكُ النَّخْلِ- وَتَنْثُرُهُ بِاللَّيْلِ فِي طَرِيقِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لإِيذَائِهِ، حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِدَّةٍ وَعَنَاءٍ.
وقِيلَ لأنَّهَا كَانَتْ تَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ بَيْنَ النَّاسِ إِطْفَاءً لِدَعْوَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِمَنْ سَعَى فِي الْفِتْنَةِ وَيُفْسِدُ بَيْنَ النَّاسِ هُوَ يَحْمِلُ الْحَطَبَ بَيْنَهُمْ، كَأَنَّهُ بِعَمَلِهِ يَحْرِقُ مَا بَيْنَهُمْ مِنْ صِلاتٍ.
وَقِيلَ: إِنَّهَا تَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حزْمَةَ حَطَبٍ مِنْ ضَرِيعٍ وَزَقُّومٍ، وَفِي عُنُقِهَا سَلاسِلُ النَّارِ.
وَقِيلَ: إِنَّهَا مَعَ كَثْرَةِ مَالِهَا وَثَرْوَتِهَا كَانَتْ تَحْمِلُ الْحَطَبَ عَلَى ظَهْرِهَا لِشِدَّةِ بُخْلِهَا، فَعُيِّرَتْ بِالْبُخْلِ.
*(فِي جِيدِهَا): فِي عُنُقِهَا.
*(حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ): مِنْ لِيفٍ أَوْ صُوفٍ مَفْتُولٍ فَتْلاً مُحْكَماً شَدِيداً تُعَذَّبُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
قَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ لَهَا قِلادَةٌ فَاخِرَةٌ مِنْ جَوْهَرٍ، فَقَالَتْ: وَاللاَّتِ وَالْعُزَّى لأُنْفِقَنَّهَا فِي عَدَاوَةِ مُحَمَّدٍ، فَأَعْقَبَهَا اللهُ مِنْهَا حَبْلاً فِي جِيدِهَا مِنْ مَسَدِ النَّارِ.
فَوَائِدُ
- أَبُو لَهَبٍ: هُوَ عَمُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَاشَرَةً، واسْمُهُ عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ.
- فَإِنْ قُلْتَ لِمَ ذَكَرَهُ اللهُ بِكُنْيَتِهِ، مَعَ أَنَّ التَّكْنِيَةَ مِنْ بَابِ التَّكْرِمَةِ وَهُوَ لاَ يَسْتَحِقُّهَا؟
قِيلَ: لاشْتِهَارِهِ بِكُنْيَتِهِ، فَلَيْسَتْ مِنْ بَابِ التَّكْرِيمِ.
وَقِيلَ لِكَرَاهَةِ ذِكْرِ اسْمِهِ القَبِيحِ، إِذْ فِيهِ الإِضَافَةُ إِلَى الصَّنَمِ، لأنَّ «الْعُزَّى» مِنْ أَسْمَاءِ الصَّنَمِ، وَهَذَا حَرَامٌ شَرْعاً.
وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
- فَإِنْ قُلْتَ: لِمَاذَا كُنِّيَ بِأَبِِي لَهَبٍ؟
قِيلَ: لإِشْرَاقِ وَجْنَتَيْهِ وَتلَهُّبِهِمَا وَوَضَاءَتِهِمَا، وَإِلاَّ فَلَيْسَ لَهُ ابْنٌ يُسَمَّى بِـ «لَهَبٍ».
- لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْكُنَى غَيْرَ «أَبِي لَهَبٍ»
- إِنْ قُلْتَ: إِنَّ «أُمَّ جَمِيلٍ» الْعَوْرَاءَ كَانَتْ مِنْ بَيْتِ الْعِزِّ وَالشَّرَفِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهَا حَمْلُ الْحَطَبِ؟
- قِيلَ: لِبُخْلِهَا. وَقِيلَ: إِنَّهَا لِشِدَّةِ عَدَاوَتِهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ تَسْتَعِينُ فِي ذَلِكَ بِأَحَدٍ، بَلْ تَفْعَلُهُ بِنَفْسِهَا.
- فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ جَاءَتْ لَفْظَةُ: «حَمَّالَةَ» علَى النَّصْبِ، وَهِي قِرَاءَةُ عَاصِمٍ؟
قِيلَ: عَلَى تَقْدِيرِ الذَّمِّ وَالشَّتْمِ، أَيْ: أَذُمُّ أَوْ أَشْتُمُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: «وَأَنَا أَسْتَحِبُّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، وَقَدْ تَوَسَّلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَمِيلِ مَنْ أَحَبَّ شَتْمَ أُمِّ جَمِيلٍ».
- كَانَ لأَبِي لَهَبٍ ثَلاثَةُ أَبْنَاءٍ: «عُتْبَةُ « و»مُعَتِّبٌ « وَ»عُتَيْبَةُ» وَقَدْ أَسْلَمَ «عُتْبَةُ» وَ»مُعَتِّبٌ» يَوْمَ الْفَتْحِ وَشَهِدَا غَزْوَتَيْ حُنَيْنٍ وَالطَّائِفِ، وَأَمَّا «عُتَيْبَةُ» فَلَمْ يُسْلِمْ، وَكَانَتْ زَوْجَتُهُ «أُمَّ كُلْثُومٍ» بِنْتَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكَانَتْ أُخْتُهَا «رُقَيَّةُ» زَوْجَةَ أَخِيهِ «عُتْبَةَ»، فَلَمَّا نَزَلَتِ السُّورَةُ قَالَ أَبُو لَهَبٍ لَهُمَا: رَأَسِي وَرَأْسُكُمَا حَرَامٌ إِنْ لَمْ تُطَلِّقَا ابْنَتَيْ مُحَمَّدٍ، فَطَلَّقَاهُمَا. وَتَزَوَّجَهُمَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَاحِدَةً بَعْدَ الأُخْرَى.
- رَوَى الْحَاكِمُ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ» (2/362) بِسَنَدِهِ: أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا– قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ «تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ» أَقْبَلَت الْعَوْرَاءُ أُمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ حَرْبٍ، وَلَهَا وَلْوَلَةٌ، وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ (حَجَرٌ) وَهِيَ تَقُولُ: مُذَّمَماً أَبَيْنَا.. وَدِينَهُ قَلَيْنَا.. وَأَمْرَهُ عَصَيْنَا. وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا رَآهَا أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ أَقْبَلَتْ، وَأَنَا أَخَافُ أَنْ تَرَاكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهَا لَنْ تَرَانِي، وَقَرَأَ قُرْآناً فَاعْتَصَمَ بِهِ كَمَا قَالَ، وَقَرَأَ: «وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً».
فَوَقفَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَلَمْ تَرَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّ صَاحِبَكَ هَجَانِي، فَقَالَ لاَ وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ مَا هَجَاكِ، فَوَلَّتْ وَهِيَ تَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي بِنْتُ سَيِّدِهَا». قَالَ الْحَاكِمُ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ.
وَالْمَقْصُودُ بِقَوْلِهَا: «مُذَمَّماً أَبَيْنَا» هُوَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ كَانَتْ قُرَيْشٌ يَسُبُّونَ الرَّسُولَ يَقُولُونَ: مُذَمَّماً بَدَلَ «مُحَمَّدٍ».
رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ (3533) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ– قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « أَلاَ تَعْجَبُونَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ وَلَعْنَهُمْ، يَشْتُمُونَ مُذَمَّماً وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّماً وَأَنَا مُحَمَّدٌ».
هَذَا آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمَسَدِ.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
«تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ»
بَيْنَ يَدَيِ السُّورَةِ
سُورَةُ المَسَدِ مَكِّيَّةٌ. وعَدَدُ آيَاتِهَا: خَمْسُ آيَاتٍ.
لها عِدَّةُ مُسَمَّيَاتٍ: فهِيَ سُورَةُ «المَسَدِ»، وسُورَةُ اللَّهَبِ، وسُورَةُ تَبَّتْ.
والسُّورَةُ كُلُّهَا مُحْكَمٌ، لَيْسَ فِيهَا نَاسِخٌ ولا مَنْسُوخٌ.
سَبَبُ النُّزُولِ
عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّفَا ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ: «يَا صَبَاحَاهْ»، فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ، قَالُوا: مَا لَكَ؟ قَاَل: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أُخْبِرُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ يُصَبِّحُكُمْ أَوْ يُمَسِّيكُمْ، أَمَا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي؟ « قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ». فَقَال أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَأَنْزَلَ اللهُ: «تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ».
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (1394)(4770)(4801)(4971)(4972)(4973).
مَعَانِي الْكَلِمَاتِ
(تَبَّتْ): يُقَالُ: تَبَّ الشَّيْءُ: إِذَا انْقَطَعَ، وَتَبَّ فُلانٌ: خَسِرَ وَهَلَكَ، وَيُقَالُ: أَتَبَّ اللهُ قُوَّتَهُ: أَضْعَفَهَا.
ومَعْنَى: «تَبَّتْ»: خَسِرَتْ، وَقِيلَ: خَابَتْ، وَقِيلَ، ضَلَّتْ، وَقِيلَ: هَلَكَتْ، وَلا مَانِعَ أَنْ تَجْتَمِعَ هَذِهِ الْمَعَانِي فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ.
(سَيَصْلَى): يَحْتَرِقُ بِهَا وَ»صَلِي» مِنْ بَابِ: «تَعِبَ»، يُقَالُ: صَلِيَتِ الشَّاةُ إِذَا شَوَيْتَهَا، وَيُقَالُ: شَاةٌ مَصْلِيَّةٌ: أَيْ مَشْوِيَّةٌ.
(ذَاتَ لَهَبٍ): ذَاتَ تَلَهُّبٍ وَاشْتِعَالٍ وَاحْتِرَاقٍ.
(الْحَطَبِ): مَا أُعِدَّ مِنَ الشَّجَرِ لِلْوَقُودِ.
(جِيدِهَا): عُنُقِهَا، وَالْجَمْعُ: أَجْيَادٌ.
(مَسَدٍ): الْمَسَدُ فِي كَلامِ الْعَرَبِ: الفَتْلُ، يُقَالُ: مَسَدَ الْحَبْلَ يَمْسدُهُ مَسْداً: إِذَا أَجَادَ فَتْلَهُ، وكُلُّ شَيْءٍ فُتِلَ مِنَ اللِّيفِ وَالخُوصِ فَهُوَ مَسَدٌ.
فَالْمَسَدُ هُوَ الْحَبْلُ الْمَضْفُورُ الْمُحْكَمُ الْفَتْلِ.
التَّفْسِيرُ
*(تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ): هَلَكَتْ وَخَسِرَتْ وَخَابَتْ وَضَلَّتْ يَدَا ذَلِكَ الْخَبِيثِ أَبِي لَهَبٍ، وَذَلِكَ لِعِنَادِهِ وَتَكْذِيبِهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَخَصَّ اللهُ –تَعَالَى– الْيَدَيْنِ بِالتَّبَابِ وَالْخُسْرَانِ، لأنَّ أَكْثَرَ الْعَمَلِ يَكُونُ بِهِمَا.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْيَدَيْنِ نَفْسُهُ، وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالْيَدِ عَنِ النَّفْسِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ» أَيْ: نَفْسُكَ، وَالْعَرَبُ تُعَبِّرُ كَثِيراً بَبَعْضِ الشَّيْءِ عَنْ كُلِّهِ.
*(وَتَبَّ): أَيْ: وَقَدْ هَلَكَ وَانْقَطَعَ ذِكْرُهُ مِنَ الدُّنْيَا، اللَّهُمَّ إِلاَّ عَلَى سَبِيلِ اللَّعْنِ وَالسَّبِّ، ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ. فَالأَوَّلُ: «تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ» دُعَاءٌ، وَالثَّانِي: «وَتَبَّ» إِخْبَارٌ، وَقَدْ وَقَعَ مَا دَعَا بِهِ عَلَيْهِ.
فَقَدْ رَوَى الطَّبْرَانِيُّ فِي «الكَبِيرِ» (1/308) وَالبَزَّارُ (9/318) مِنْ حَدِيثِ رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ إِسْلامِهِ هُوَ وَأُمِّ الْفَضْلِ وَالْعَبَّاسِ وَفِيهِ: «وَقَالَتْ: أَيْ عَدُوَّ اللهِ (تَقْصِدُ: أَبَا لَهَبٍ)، اسْتَضْعَفْتَهُ أَنْ رَأَيْتَ سَيِّدَهُ غَائِباً عَنْهُ؟ فَقَامَ (أَبُو لَهَبٍ) ذَلِيلاً، فَوَاللهِ مَا عَاشَ إِلاَّ سَبْعَ لَيَالٍ حَتَّى ضَرَبَهُ اللهُ بِالعَدَسَةِ –وَهِيَ بَثْرَةٌ تَخْرُجُ بِالبَدَنِ فَتَقْتُلُ وَهِيَ تُشْبِهُ الطَّاعُونَ-، فَقَتَلَتْهُ، فَلَقَدْ تَرَكَهُ ابْنَاهُ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلاثَةً مَا يَدْفِنَاهُ حَتَّى أَنْتَنَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ لابْنَيْهِ: أَلاَ تَسْتَحِيَانِ أَنَّ أَبَاكُمَا قَدْ أَنْتَنَ فِي بَيْتِهِ؟ فَقَالاَ: إِنَّا نَخْشَى هَذِه القُرْحَةَ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ يَتَّقُونَ «الْعَدَسَةَ» كَمَا يُتَّقَى الطَّاعُونُ، فَقَالَ رَجُلٌ: انْطَلِقَا فَأَنَا مَعَكُمَا، قَالَ: فَوَاللهِ مَا غَسَّلُوهُ إِلاَّ قَذْفاً بِالْمَاءِ عَلَيْهِ مِنْ بَعِيدٍ، ثُمَّ احْتَمَلُوهُ فَقَذَفُوهُ فِي أَعْلَى مَكَّةَ إِلَى جِدَارٍ وَقَذَفُوا عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ».
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي «مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ» (6/88): وَفِي إِسْنَادِهِ حُسَيْنُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ وَثَّقَهُ أَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ، وَضَعَّفَهُ جَمَاعَةٌ وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ.
*(مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ): أَيْ: لَمْ يَنْفَعْهُ وَلَمْ يُفِدْهُ مَالُهُ الَّذِي جَمَعَهُ، وَلاَ جَاهُهُ وَعِزُّهُ الَّذِي اكْتَسَبَهُ.
وَقِيلَ: (مَالُهُ): مَا وَرِثَهُ مِنْ أَبِيهِ، (وَمَا كَسَبَ): الَّذِي كَسَبَهُ بِنَفْسِهِ.
وَقِيلَ: (مَالُهُ): مَا جَمَعَهُ مِنْ رُؤُوسِ أَمْوَالِهِ، وَ(مَا كَسَبَ): مِنَ الأَوْلادِ فَإِنَّ وَلَدَ الرَّجُلِ مِنْ كَسْبِهِ.
*(سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ): سَيَذُوقُ نَاراً عَظِيمَةً ذَاتَ تَوَقُّدٍ وَاشْتِعَالٍ وَتَلَهُّبٍ، يُعَذَّبُ بِلَظَاهَا وَيُلْفَحُ بِحَرِّهَا، وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ.
*(وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ): أَيْ: وَسَتَصْلَى وَسَتَذُوقُ امْرَأَتُهُ أَيْضاً نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ، وَامْرَأَتُهُ اسْمُهَا: الْعَوْرَاءُ بِنْتُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ أُخْتُ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ، وَعَمَّةُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَكُنْيَتُهَا: أُمُّ جَمِيلٍ، وَقِيلَ: اسْمُهَا: أَرْوَى، واللهُ أَعْلَمُ.
وَلِمَاذَا وَصَفَهَا الْقُرْآنُ بـ «حَمَّالَةَ الْحَطَبِ»؟ قِيلَ: لأَنَّهَا كَانَتْ تَحْمِلُ حَطَبَ الشَّوْكِ وَالْحَسَكِ – ثَمْرَةٌ خَشِنَةٌ تَتَعَلَّقُ بِأَصْوَافِ الْغَنَمِ وَأَوْبَارِ الإِبِلِ- وَالسّعْدَانِ –شَوْكُ النَّخْلِ- وَتَنْثُرُهُ بِاللَّيْلِ فِي طَرِيقِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لإِيذَائِهِ، حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِدَّةٍ وَعَنَاءٍ.
وقِيلَ لأنَّهَا كَانَتْ تَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ بَيْنَ النَّاسِ إِطْفَاءً لِدَعْوَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِمَنْ سَعَى فِي الْفِتْنَةِ وَيُفْسِدُ بَيْنَ النَّاسِ هُوَ يَحْمِلُ الْحَطَبَ بَيْنَهُمْ، كَأَنَّهُ بِعَمَلِهِ يَحْرِقُ مَا بَيْنَهُمْ مِنْ صِلاتٍ.
وَقِيلَ: إِنَّهَا تَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حزْمَةَ حَطَبٍ مِنْ ضَرِيعٍ وَزَقُّومٍ، وَفِي عُنُقِهَا سَلاسِلُ النَّارِ.
وَقِيلَ: إِنَّهَا مَعَ كَثْرَةِ مَالِهَا وَثَرْوَتِهَا كَانَتْ تَحْمِلُ الْحَطَبَ عَلَى ظَهْرِهَا لِشِدَّةِ بُخْلِهَا، فَعُيِّرَتْ بِالْبُخْلِ.
*(فِي جِيدِهَا): فِي عُنُقِهَا.
*(حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ): مِنْ لِيفٍ أَوْ صُوفٍ مَفْتُولٍ فَتْلاً مُحْكَماً شَدِيداً تُعَذَّبُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
قَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ لَهَا قِلادَةٌ فَاخِرَةٌ مِنْ جَوْهَرٍ، فَقَالَتْ: وَاللاَّتِ وَالْعُزَّى لأُنْفِقَنَّهَا فِي عَدَاوَةِ مُحَمَّدٍ، فَأَعْقَبَهَا اللهُ مِنْهَا حَبْلاً فِي جِيدِهَا مِنْ مَسَدِ النَّارِ.
فَوَائِدُ
- أَبُو لَهَبٍ: هُوَ عَمُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَاشَرَةً، واسْمُهُ عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ.
- فَإِنْ قُلْتَ لِمَ ذَكَرَهُ اللهُ بِكُنْيَتِهِ، مَعَ أَنَّ التَّكْنِيَةَ مِنْ بَابِ التَّكْرِمَةِ وَهُوَ لاَ يَسْتَحِقُّهَا؟
قِيلَ: لاشْتِهَارِهِ بِكُنْيَتِهِ، فَلَيْسَتْ مِنْ بَابِ التَّكْرِيمِ.
وَقِيلَ لِكَرَاهَةِ ذِكْرِ اسْمِهِ القَبِيحِ، إِذْ فِيهِ الإِضَافَةُ إِلَى الصَّنَمِ، لأنَّ «الْعُزَّى» مِنْ أَسْمَاءِ الصَّنَمِ، وَهَذَا حَرَامٌ شَرْعاً.
وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
- فَإِنْ قُلْتَ: لِمَاذَا كُنِّيَ بِأَبِِي لَهَبٍ؟
قِيلَ: لإِشْرَاقِ وَجْنَتَيْهِ وَتلَهُّبِهِمَا وَوَضَاءَتِهِمَا، وَإِلاَّ فَلَيْسَ لَهُ ابْنٌ يُسَمَّى بِـ «لَهَبٍ».
- لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْكُنَى غَيْرَ «أَبِي لَهَبٍ»
- إِنْ قُلْتَ: إِنَّ «أُمَّ جَمِيلٍ» الْعَوْرَاءَ كَانَتْ مِنْ بَيْتِ الْعِزِّ وَالشَّرَفِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهَا حَمْلُ الْحَطَبِ؟
- قِيلَ: لِبُخْلِهَا. وَقِيلَ: إِنَّهَا لِشِدَّةِ عَدَاوَتِهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ تَسْتَعِينُ فِي ذَلِكَ بِأَحَدٍ، بَلْ تَفْعَلُهُ بِنَفْسِهَا.
- فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ جَاءَتْ لَفْظَةُ: «حَمَّالَةَ» علَى النَّصْبِ، وَهِي قِرَاءَةُ عَاصِمٍ؟
قِيلَ: عَلَى تَقْدِيرِ الذَّمِّ وَالشَّتْمِ، أَيْ: أَذُمُّ أَوْ أَشْتُمُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: «وَأَنَا أَسْتَحِبُّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، وَقَدْ تَوَسَّلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَمِيلِ مَنْ أَحَبَّ شَتْمَ أُمِّ جَمِيلٍ».
- كَانَ لأَبِي لَهَبٍ ثَلاثَةُ أَبْنَاءٍ: «عُتْبَةُ « و»مُعَتِّبٌ « وَ»عُتَيْبَةُ» وَقَدْ أَسْلَمَ «عُتْبَةُ» وَ»مُعَتِّبٌ» يَوْمَ الْفَتْحِ وَشَهِدَا غَزْوَتَيْ حُنَيْنٍ وَالطَّائِفِ، وَأَمَّا «عُتَيْبَةُ» فَلَمْ يُسْلِمْ، وَكَانَتْ زَوْجَتُهُ «أُمَّ كُلْثُومٍ» بِنْتَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكَانَتْ أُخْتُهَا «رُقَيَّةُ» زَوْجَةَ أَخِيهِ «عُتْبَةَ»، فَلَمَّا نَزَلَتِ السُّورَةُ قَالَ أَبُو لَهَبٍ لَهُمَا: رَأَسِي وَرَأْسُكُمَا حَرَامٌ إِنْ لَمْ تُطَلِّقَا ابْنَتَيْ مُحَمَّدٍ، فَطَلَّقَاهُمَا. وَتَزَوَّجَهُمَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَاحِدَةً بَعْدَ الأُخْرَى.
- رَوَى الْحَاكِمُ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ» (2/362) بِسَنَدِهِ: أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا– قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ «تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ» أَقْبَلَت الْعَوْرَاءُ أُمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ حَرْبٍ، وَلَهَا وَلْوَلَةٌ، وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ (حَجَرٌ) وَهِيَ تَقُولُ: مُذَّمَماً أَبَيْنَا.. وَدِينَهُ قَلَيْنَا.. وَأَمْرَهُ عَصَيْنَا. وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا رَآهَا أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ أَقْبَلَتْ، وَأَنَا أَخَافُ أَنْ تَرَاكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهَا لَنْ تَرَانِي، وَقَرَأَ قُرْآناً فَاعْتَصَمَ بِهِ كَمَا قَالَ، وَقَرَأَ: «وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً».
فَوَقفَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَلَمْ تَرَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّ صَاحِبَكَ هَجَانِي، فَقَالَ لاَ وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ مَا هَجَاكِ، فَوَلَّتْ وَهِيَ تَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي بِنْتُ سَيِّدِهَا». قَالَ الْحَاكِمُ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ.
وَالْمَقْصُودُ بِقَوْلِهَا: «مُذَمَّماً أَبَيْنَا» هُوَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ كَانَتْ قُرَيْشٌ يَسُبُّونَ الرَّسُولَ يَقُولُونَ: مُذَمَّماً بَدَلَ «مُحَمَّدٍ».
رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ (3533) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ– قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « أَلاَ تَعْجَبُونَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ وَلَعْنَهُمْ، يَشْتُمُونَ مُذَمَّماً وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّماً وَأَنَا مُحَمَّدٌ».
هَذَا آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمَسَدِ.