داية النهاية:
• انتهت مرحلة عربية. وقد تميّز فصل الختام الطويل بالتخلص حتى من المظهر الإيديولوجي، وبتقارب شكل الأنظمة العربية حتى انتهت إلى مركّب يكاد يعم عربياً لتشترك فيه الجمهوريات والملكيات. وتشمل عناصر هذا المركب أسراً حاكمة (بحزب، أو من دون حزب)، والأجهزة الأمنية التي دخلت السياسة بشكل علني، ورجال الأعمال الجدد، الذين يختلطون في علاقات القرابة والمصاهرة والصداقة مع رجالات السياسة والأمن. لقد نشأت طبقة حاكمة جديدة، وبدا لفترة كأن هذه الخاتمة هي المستقبل القاتم ذاته.
• كان واضحاً أن أسوأ ما في نهاية المرحلة السابقة هو هذه الخاتمة السلطانية المملوكية البائسة التي بدت مستديمة أو مستدامة. وبدا وكلاء المرحلة واثقين من أنفسهم إلى درجة المجاهرة والتباهي بالفساد (الناجم عن تداخل السياسة والأمن والاقتصاد، وعن غياب الفاصل بين الحيز الخاص والعام)، وإلى درجة الإعداد لتوريث الأبناء في الجمهوريات العربية كافة.
• وكان المثير للقلق والإحباط أن ملامح المرحلة القادمة لم تتضح بعد، وأن المجتمعات العربية سوف تبقى رهن هذه المجموعات الحاكمة التي تجمع النيو–ليبرالية الاقتصادية (وهي في ظل علاقات المحسوبية والزبائنية لا تعني إلا الفساد) بالاستبداد السياسي. لم تمر على العرب مثل هذه الحالة من انسداد أفق، من الاستبداد والعوز والفقر والفساد وانهيار مجتمعات الإنتاج، ونشوء المجتمعات الاستهلاكية وفقدان السيادة، والتبعية للغرب من دون احترام للذات، حتى كاد العرب خلالها ينسون عناصر قوتهم، وهي كثيرة.
• تعلن الثورة الشعبية المجيدة في تونس نهاية هذه الخاتمة البائسة عربياً. والأهم أنها تبشّر بالإمكانيات الكامنة في المرحلة القادمة. لقد فتحت المدى مجدداً وبانت ملامح الأفق.
• بدأت ثورة تونس الشعبية المجيدة، بانتفاضات خبز محلية تكررت عدة مرات في وسط وجنوب البلاد في العامين الأخيرين. ولكن الانتفاضة الأخيرة دامت زمناً يكفي كي تنضم إليها المدن والنواحي التونسية الأخرى. ويعود الفضل في ديمومتها إلى عناد وبسالة أهالي ناحية سيدي بوزيد الذين اختلط لديهم المطلب الاجتماعي، بالغضب والدفاع عن الكرامة التي تمثلت في حرق شاب لنفسه رافضاً تقبّل العجز في مواجهة الإذلال. كانت البداية إذن انتفاضةَ الخبز والكرامة، وليس الخبز وحده. هذا المركب من رفض الحرمان، ورفض الذل، هو الذي يؤدي للعناد في التعبير عن الغضب.
• كان الفساد موجوداً دائماً، ولكنه لم يكن يوماً بهذه الصفاقة. وقد أثبتت الأحداث التونسية أن الشعوب تنفر من الفساد، ولا تعتبره نوعاً من سوء الإدارة، بل تراه من أنواع الظلم. يثير فيها من الغضب أكثر مما يثيره الفقر وحده. فقد يرضى الناس بالفقر لحين إذا اعتقدوا أنه واقعٌ غير ناجم عن ظلم. الفساد الظاهر للعيان هو أكثر ما يشعر الناس بأن حالة الفقر هي حالة ظلم وحرمان.
• امتدت الثورة إلى سائر أرجاء تونس، وجوبهت بالقمع. وكان الثمن باهظاً. ولكن ما أن أدركت الجموع قوتها واكتشفت شجاعتها التي كانت دائماً في حالة كمون، حتى أصبح وقفها شبه مستحيل.
• ليست كل انتفاضة خبز مرشحة للتوسع والامتداد حتى التحول إلى ثورة. وقد نجحت في التمدد في هذه الحالة لأسباب عديدة، أهمها: أ) رد فعل الدولة المستخف بذكاء الناس، ورد فعل الأجهزة الأمنية المستهتر بحياة الناس. ب) أن تونس أصبحت ناضجةً لرفض الوضع القائم من قبل الفئات الاجتماعية المتضررة من التمييز والاستغلال، والمتأذية من اقتصاد النمو دون تنمية، ومن الاقتصاد السياحي الذي يغني ويطوّر مناطقَ، ويُفقِرُ أخرى، ويرفع أسعار العقارات دون نمو لسائر فئات المجتمع. وفقد الاقتصاد الذي يعتمد على صناعات صغيرة تصدر لأوروبا أهليته للمنافسة حين دخلت الصين منظمة التجارة الحرة، وانحسرت صناعة النسيج والألبسة التونسية وزادت نسب البطالة. ج) في هذه الحالة عادت حتى انجازات النظام السابق وبالاً عليه. فقد ارتفعت نسبة التعليم في تونس فعلاً، وقد اهتم نظاما بورقيبة وبن علي بالتعليم فعلاً. ولكن نسب التعليم المرتفعة تتحول إلى عبء على النظام في حالة عدم تمكنه من توفير فرص عمل للخريجين، في الوقت الذي ترتفع فيه نسبة التوقعات عند المتعلمين لمستقبل أفضل. فحجم الخيبة غالباً ما يكون بقدر حجم التوقعات. ويرفع التعليم نسبة التوقعات، كما يرفع منسوبَ الوعي الرافض للظلم والفساد.
• نجد جزءًا كبيراً من هذه الحالات قائماً في الدول العربية كافة، ونضيف إليه التفجر السكاني الشبابي في أنحاء الدولة كافة، وهو ينذر بحالات بطالة واسعة، وعدم استيعاب سوق العمل للخريجين وغير الخريجين، ما سوف يؤدي إلى عدم استقرار في ظل السياسات الاقتصادية الراهنة في المجتمعات العربية جميعها. فماذا يميّز تونس؟
خصوصية تونس:
• لقد تفاوتت درجات الاستبداد القائمة بين النظم العربية التي تقوم على المركّب المفصّل أعلاه. فمنها من أتاح نشوء الأحزاب الصورية أو المختَرَقة بالموالين للنظام وبممثلي الأجهزة، ومنها من أتاح حرية للإعلام إلى سقف محدد واخترقه بوسائل أخرى مثل عيون وآذان الأمن وبإفساد جزء من الصحفيين. ومنها من أتاح متنفساً للناس. ومن الأنظمة الاستبدادية من تبنى قضية وخطاباً إيديولوجياً يتطابق مع المزاج الشعبي السائد.
• كانت حالة تونس أشبه بحالة دولة بوليسية لم تتح فيها أية فسحة حرية للإعلام، ووصل فيها تسامح النظام مع الأحزاب القليلة المسموح بها الى %3 من الأصوات، كما لم يحترم النظام حقوق الإنسان والمواطن، بل داسها بحذاء الأجهزة الأمنية. وتجاهل النظام نداءات منظمات حقوق الإنسان التونسية والغربية، التي يقال لصالحها إنها ثابرت في فضحه رغم صداقة الغرب للنظام وتجاهل دوله لفظاظة النظام في الدوس على حقوق الإنسان.
• لم يترك النظام في تونس أي مجال، أو هامش لفئات وسيطة بين الدولة والشعب، أو حتى لمعارضات نصف فعلية يمكنها أن تربك حركة الشارع بشعارات مزدوجة كما تفعل الأحزاب المصرية مثلاً.
• النظام التونسي هو أيضاً نظام بلا قضية، «دكتاتوريته رمادية»، لا صلة لها بمزاج الشارع والرأي العام. وقد بدا غير مبالٍ بشكل كامل بالقضايا العربية، ورتّب علاقاته مع إسرائيل منذ أوسلو، وجعل قبلته الشمال بشكل سافر وعلني. ولم يكن لديه ما يتباهى به سوى «العلمانوية» التي أعمت أعين الكثير من المثقفين والفنانين وغيرهم عن رؤية طبيعة النظام الحقيقية. فالعلمانية لا تكفي للتدليل على شيء، وهي ليست نظام حكم، ولا هي سياسة اقتصادية اجتماعية. والواقع أن التضرر منه قد شمل الفئات المتدينة والعلمانية على حد سواء.
• والمجتمع التونسي مجتمع متجانس لا يتحوّل فيه الصراع بسهولة إلى صراع طائفي أو عشائري. ولا تتحوّل فيه الصراعات الطبقية والسياسية إلى صراعات على مستوى الهويّات الجزئية. وهذا على عكس المجتمعات غير المتجانسة التي يراهن فيها النظام الاستبدادي على التفرقة الاجتماعية.
• في المجتمع التونسي طبقة وسطى واسعة، ونسب تعليم عالية.
(هذه العوامل مجتمعة هي التي جعلتنا نتوقع بناء على تحليل علمي وليس بناء على خطاب الأماني قبل أكثر من عشر سنوات في «كتاب المجتمع المدني»، وقبل ثلاثة أعوام في «كتاب المسألة العربية» أن تونس دولة مرشحة للتحول الديمقراطي).
• انتهت مرحلة عربية. وقد تميّز فصل الختام الطويل بالتخلص حتى من المظهر الإيديولوجي، وبتقارب شكل الأنظمة العربية حتى انتهت إلى مركّب يكاد يعم عربياً لتشترك فيه الجمهوريات والملكيات. وتشمل عناصر هذا المركب أسراً حاكمة (بحزب، أو من دون حزب)، والأجهزة الأمنية التي دخلت السياسة بشكل علني، ورجال الأعمال الجدد، الذين يختلطون في علاقات القرابة والمصاهرة والصداقة مع رجالات السياسة والأمن. لقد نشأت طبقة حاكمة جديدة، وبدا لفترة كأن هذه الخاتمة هي المستقبل القاتم ذاته.
• كان واضحاً أن أسوأ ما في نهاية المرحلة السابقة هو هذه الخاتمة السلطانية المملوكية البائسة التي بدت مستديمة أو مستدامة. وبدا وكلاء المرحلة واثقين من أنفسهم إلى درجة المجاهرة والتباهي بالفساد (الناجم عن تداخل السياسة والأمن والاقتصاد، وعن غياب الفاصل بين الحيز الخاص والعام)، وإلى درجة الإعداد لتوريث الأبناء في الجمهوريات العربية كافة.
• وكان المثير للقلق والإحباط أن ملامح المرحلة القادمة لم تتضح بعد، وأن المجتمعات العربية سوف تبقى رهن هذه المجموعات الحاكمة التي تجمع النيو–ليبرالية الاقتصادية (وهي في ظل علاقات المحسوبية والزبائنية لا تعني إلا الفساد) بالاستبداد السياسي. لم تمر على العرب مثل هذه الحالة من انسداد أفق، من الاستبداد والعوز والفقر والفساد وانهيار مجتمعات الإنتاج، ونشوء المجتمعات الاستهلاكية وفقدان السيادة، والتبعية للغرب من دون احترام للذات، حتى كاد العرب خلالها ينسون عناصر قوتهم، وهي كثيرة.
• تعلن الثورة الشعبية المجيدة في تونس نهاية هذه الخاتمة البائسة عربياً. والأهم أنها تبشّر بالإمكانيات الكامنة في المرحلة القادمة. لقد فتحت المدى مجدداً وبانت ملامح الأفق.
• بدأت ثورة تونس الشعبية المجيدة، بانتفاضات خبز محلية تكررت عدة مرات في وسط وجنوب البلاد في العامين الأخيرين. ولكن الانتفاضة الأخيرة دامت زمناً يكفي كي تنضم إليها المدن والنواحي التونسية الأخرى. ويعود الفضل في ديمومتها إلى عناد وبسالة أهالي ناحية سيدي بوزيد الذين اختلط لديهم المطلب الاجتماعي، بالغضب والدفاع عن الكرامة التي تمثلت في حرق شاب لنفسه رافضاً تقبّل العجز في مواجهة الإذلال. كانت البداية إذن انتفاضةَ الخبز والكرامة، وليس الخبز وحده. هذا المركب من رفض الحرمان، ورفض الذل، هو الذي يؤدي للعناد في التعبير عن الغضب.
• كان الفساد موجوداً دائماً، ولكنه لم يكن يوماً بهذه الصفاقة. وقد أثبتت الأحداث التونسية أن الشعوب تنفر من الفساد، ولا تعتبره نوعاً من سوء الإدارة، بل تراه من أنواع الظلم. يثير فيها من الغضب أكثر مما يثيره الفقر وحده. فقد يرضى الناس بالفقر لحين إذا اعتقدوا أنه واقعٌ غير ناجم عن ظلم. الفساد الظاهر للعيان هو أكثر ما يشعر الناس بأن حالة الفقر هي حالة ظلم وحرمان.
• امتدت الثورة إلى سائر أرجاء تونس، وجوبهت بالقمع. وكان الثمن باهظاً. ولكن ما أن أدركت الجموع قوتها واكتشفت شجاعتها التي كانت دائماً في حالة كمون، حتى أصبح وقفها شبه مستحيل.
• ليست كل انتفاضة خبز مرشحة للتوسع والامتداد حتى التحول إلى ثورة. وقد نجحت في التمدد في هذه الحالة لأسباب عديدة، أهمها: أ) رد فعل الدولة المستخف بذكاء الناس، ورد فعل الأجهزة الأمنية المستهتر بحياة الناس. ب) أن تونس أصبحت ناضجةً لرفض الوضع القائم من قبل الفئات الاجتماعية المتضررة من التمييز والاستغلال، والمتأذية من اقتصاد النمو دون تنمية، ومن الاقتصاد السياحي الذي يغني ويطوّر مناطقَ، ويُفقِرُ أخرى، ويرفع أسعار العقارات دون نمو لسائر فئات المجتمع. وفقد الاقتصاد الذي يعتمد على صناعات صغيرة تصدر لأوروبا أهليته للمنافسة حين دخلت الصين منظمة التجارة الحرة، وانحسرت صناعة النسيج والألبسة التونسية وزادت نسب البطالة. ج) في هذه الحالة عادت حتى انجازات النظام السابق وبالاً عليه. فقد ارتفعت نسبة التعليم في تونس فعلاً، وقد اهتم نظاما بورقيبة وبن علي بالتعليم فعلاً. ولكن نسب التعليم المرتفعة تتحول إلى عبء على النظام في حالة عدم تمكنه من توفير فرص عمل للخريجين، في الوقت الذي ترتفع فيه نسبة التوقعات عند المتعلمين لمستقبل أفضل. فحجم الخيبة غالباً ما يكون بقدر حجم التوقعات. ويرفع التعليم نسبة التوقعات، كما يرفع منسوبَ الوعي الرافض للظلم والفساد.
• نجد جزءًا كبيراً من هذه الحالات قائماً في الدول العربية كافة، ونضيف إليه التفجر السكاني الشبابي في أنحاء الدولة كافة، وهو ينذر بحالات بطالة واسعة، وعدم استيعاب سوق العمل للخريجين وغير الخريجين، ما سوف يؤدي إلى عدم استقرار في ظل السياسات الاقتصادية الراهنة في المجتمعات العربية جميعها. فماذا يميّز تونس؟
خصوصية تونس:
• لقد تفاوتت درجات الاستبداد القائمة بين النظم العربية التي تقوم على المركّب المفصّل أعلاه. فمنها من أتاح نشوء الأحزاب الصورية أو المختَرَقة بالموالين للنظام وبممثلي الأجهزة، ومنها من أتاح حرية للإعلام إلى سقف محدد واخترقه بوسائل أخرى مثل عيون وآذان الأمن وبإفساد جزء من الصحفيين. ومنها من أتاح متنفساً للناس. ومن الأنظمة الاستبدادية من تبنى قضية وخطاباً إيديولوجياً يتطابق مع المزاج الشعبي السائد.
• كانت حالة تونس أشبه بحالة دولة بوليسية لم تتح فيها أية فسحة حرية للإعلام، ووصل فيها تسامح النظام مع الأحزاب القليلة المسموح بها الى %3 من الأصوات، كما لم يحترم النظام حقوق الإنسان والمواطن، بل داسها بحذاء الأجهزة الأمنية. وتجاهل النظام نداءات منظمات حقوق الإنسان التونسية والغربية، التي يقال لصالحها إنها ثابرت في فضحه رغم صداقة الغرب للنظام وتجاهل دوله لفظاظة النظام في الدوس على حقوق الإنسان.
• لم يترك النظام في تونس أي مجال، أو هامش لفئات وسيطة بين الدولة والشعب، أو حتى لمعارضات نصف فعلية يمكنها أن تربك حركة الشارع بشعارات مزدوجة كما تفعل الأحزاب المصرية مثلاً.
• النظام التونسي هو أيضاً نظام بلا قضية، «دكتاتوريته رمادية»، لا صلة لها بمزاج الشارع والرأي العام. وقد بدا غير مبالٍ بشكل كامل بالقضايا العربية، ورتّب علاقاته مع إسرائيل منذ أوسلو، وجعل قبلته الشمال بشكل سافر وعلني. ولم يكن لديه ما يتباهى به سوى «العلمانوية» التي أعمت أعين الكثير من المثقفين والفنانين وغيرهم عن رؤية طبيعة النظام الحقيقية. فالعلمانية لا تكفي للتدليل على شيء، وهي ليست نظام حكم، ولا هي سياسة اقتصادية اجتماعية. والواقع أن التضرر منه قد شمل الفئات المتدينة والعلمانية على حد سواء.
• والمجتمع التونسي مجتمع متجانس لا يتحوّل فيه الصراع بسهولة إلى صراع طائفي أو عشائري. ولا تتحوّل فيه الصراعات الطبقية والسياسية إلى صراعات على مستوى الهويّات الجزئية. وهذا على عكس المجتمعات غير المتجانسة التي يراهن فيها النظام الاستبدادي على التفرقة الاجتماعية.
• في المجتمع التونسي طبقة وسطى واسعة، ونسب تعليم عالية.
(هذه العوامل مجتمعة هي التي جعلتنا نتوقع بناء على تحليل علمي وليس بناء على خطاب الأماني قبل أكثر من عشر سنوات في «كتاب المجتمع المدني»، وقبل ثلاثة أعوام في «كتاب المسألة العربية» أن تونس دولة مرشحة للتحول الديمقراطي).