ميز كثير من الباحثين بين نوعين من الثقافة : ثقافة شفاهية و كتابية؛ أما الأولى فهي الفطرة الإنسانية والسليقة، وعدم الوعي بالذات منفصلة عن موضوعها ، وعدم استعمال الكتابة كتقنية متطورة وسيلة للتفكير والتعبير
. أما الثقافة الكتابية فهي لا تقتصر على معرفة الكتابة واستخدامها في تقييد المعلومات والكلمات المنطوقة إلى صورة خطية ، بل إن الكتابة تقنية متطورة طورت من وعي الإنسان بذاته وبالعالم من حوله ، وجعلته قادرا على الفصل بين الذات والموضوع ، والوقوف على مسافة واضحة منه، الأمر الذي تفتقر إليه الشفاهية التي هي أكثر اندماجا في الوعي الجمعي والبنيات الاجتماعية([1]). غير أن الفصل بين الثقافتين يمكن أن يكون فصلا تعسفيا ، أو على الأقل إجرائيا لتسهيل العمل المنهجي ليس إلا. ومن ثم فإن هؤلاء الباحثين لاحظوا أن الإنسان الفرد ، كما أن الحياة الإنسانية بعامة عرفت الشفاهية بمفردها ، ولم تكن في يوم من الأيام تعرف الكتابية بمعزل عن الشفاهية. وعلى ذلك فإن العمل الكتابي مهما ادعى التجرد من الثقافة الشفاهية أو البراءة منها ، فإن الافتراض الذي يؤكده الواقع أن آثار الشفاهية لابد أن تظل عالقة بهذا العمل الكتابي المنبثق عن ثقافة كتابية خالصة. ولا أدل على ذلك من وجود حروف الاستدراك والإضراب في الكتابية أو في أرقى اللغات الكتابية ،مثل لكن و بل وغيرها...([2]) وهي أدوات شفاهية محضة لأن الكتابة قادرة على تنقح ما شاءت دون أن ينتبه القراء فيما بعد إلى هذه التنقيحات، ولعل وجود آثار الشفاهية في اللغات الكتابية شيء طبيعي يدل على أصالتها وعمقها من حيث أنها غير قادرة على الاستغناء عن الشفاهية. وحين ننقل الحديث إلى مستوى أرقى أي إلى مستوى المعاني ،فالثقافة الشفاهية المعبرة عن الوجدان الجمعي والعمق العقل الباطني للمجتمع الإنساني، نعتبرها كما اعتبرها كثير من الباحثين مثل يونج تعبر عن الوعي الإنساني المبكر أو الطفولة الإنسانية، لذلك لا حظ العلماء في للدراسات الفولكلورية تشابها شديدا في الموروث الشعبي كالأساطير والحكايات الخرافية الموروثة في مجمل الثقافات الشعبية العالمية([3]). والمسألة التي نريد أن نقترب منها في هذه الورقة أن الشعر الجزائري المعاصر التي كتبه متعلمون ومثقفون متمكنون من الكتابة أو أن الكتابة هي التي تمكنت منهم ، يوظف - ولا شك - التراث الشفهي توظيفا رمزيا لإثراء الدلالة العميقة للنصوص الجديدة، فهل وصل هذا التوظيف إلى مستوى العمق الذي يطمح إليه الشعراء،ونعني بذلك أن تمتزج تجربة الشاعر بالرمز التراثي الشفهي لتستوحي منه تجربة جديدة تجعل له أبعادا وقراءات غير محددة موغلة في الثقافة من المعاصرة إلى العربية الإسلامية وحتى إلى الثقافة الإنسانية. والسبب في هذا الطرح هو أن الظواهر الشفاهية في الشعر المسمى فصيحا لم تكن محل احترام وتقدير من قبل النقاد التقليديين، بسبب افتراضهم معايير مرتبطة بالبلاغة والفصاحة التقليدية والنصوص النموذجية التي احتفى بها النقاد الأوائل،فإلى أي حد يمكن الاكتفاء بقراءة الفصيح بالفصيح والعالم بالعالم والشفاهي بالشفاهي، هكذا يتساءل أحد الأستاذ محمد الوهابي([4]). إن المجالين يتعايشان معا ويتكاملان فهما ليسا متناقضين وليس بينهما جدران سميكة ولا خصام أبدي إلا وفق تصور إيديولوجي لا علاقة له بالدرس العلمي الموضوعي. رصدنا في هذه المقاربة مجموعتين شعريتين اشترك فيهما ستة وعشرون شاعرا من مدينة الوادي ، الأولى بعنوان ’’ وسابعهم وجهها‘‘([5]) ويضم نصوصا لستة شعراء ، وأما الثانية فهو ’’عزف لفجر آت‘‘([6]) ويضم نصوصا لعشرين شاعرا، ولا نستطيع أن نزعم أن رصدنا للظواهر ومقاربتها كان موضوعيا خالصا ولم تتدخل فيه الذائقة الشخصية ، كما لا نستطيع أن ندعي أن هذا الرصد كان مسحا شاملا لكل النصوص والسبب في هذا و ذاك أن الحيز المتاح لنا لا يسمح بذلك، كما أن التحليل للنصوص الفنية يصعب استبعاد الذائقة الذاتية مهما ادعى لنفسه الموضوعية لاسيما من وجهة النظر هذه.إن استلهام الموروث الشفاهي يتراوح بين الغوص في عمق التراث الشفاهي العربي العريق وبين توظيف إشارات سريعة لألفاظ تحيل إلى ممارسات ثقافية شفهية كالحكي والرواية أو لعناصر واردة بكثرة في التراث الشفاهي كالغيلان والتنين والعنقاء...الخ .إلى توظيف معاني راسخة في تراثنا الشفوي بل في التراث الحضاري العربي الإسلامي بل حتى في التراث الإنساني ككل. ويمكن أن يكون التوظيف لمعنى بسيط يمكن فكه بسهولة إلى تعقيد شديد بحيث تختلط به عناصر عدة فيشتبك معها.فمن الأول التوظيف الإيجابي لفكرة الحكايات التي تدل على تجذر في الأرض ووجود أصالة وعمق الانتماء للمجتمع العربي الذي يمتلك هذه الحكايات مقابل المجتمع الصهيوني الذي لا يمتلك هذه الحكايات من ثم فهو دخيل على هذه الأرض ونبتة فطرية بلا جذور يقول أبوبكر مراد :ليس لكم هنا من باقية لأنكم مستنبتونلا تعرفون ما الأيام الخاليةلهذا يسأل صغاركم أطفالناعن الحكايا والأحاجي السالفةويغبطونهم عن هذه الأشعار الحالمة([7])كما يوظف فكرة الطفولة للإشارة إلى المستقبل، فمن لا ماضي له ولا تاريخ،لا مستقبل له ،ومن يمتلك الماضي والجذور ، يكون له مستقبل الأرض والوطن والإرث الحضاري ، فمع أن الفكرة بسيطة إلا أن توظيف إيجابي لعنصر التراث.الشفهي: الأحاجي والحكايات والأشعار...ومن استعمال رموز من التراث العربي الشفاهي الذي ورد في الشعر العربي القديم على الرغم من طابعه النمطي الذي يصادق علية النقاد الكلاسيكيين قول جرير : قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم قالوا لأمهم بولي على النار نجد الشاعر بن عمر ميداني، يستغل فكرة استنباح الكلاب ويرمز بها إلى استثارة الأفكار النيرة المنعشة التي تنتشر انتشار الرائحة الذكية ، لكن هذه الأفكار والدعوات قد تخيف لأول وهلة ؛ فالذي تخيفه قد تعود عليه بالخير العميم مثل كلاب الكرام حين تنبح لاستقبال الضيف،أما الكانون فهو النار والنور والدفء الذي يكون مرتعا لهذه الأنسام الرقيقة التي تترصد لها كثير من القيم المذمومة التي يفرضها الواقع الآسن لحياة الشاعر وأبناء جيله في فترة من أقسى ما مر به الوطن وجيل الشاعر والشعب برمته من محن بعد حرب التحرير، تلك التي كانت مقدسة يستقبل الشعب بلواها بصبر وتحدِّ،أما العهر والغبن في مرحلة الشاعر فإنها بالإضافة إلى رائحتها الخبيثة المناقضة لرائحة الأنسام، تطفئ الكانون الذي يشير إلى عتق التجربة وأصالتها، وعلى الرغم من تشظِّي الصورة (تفرقها في مواضع متباعدة) فإن طرفيها واضحان ووجه الشبه واضح أيضا إلا أن إيحاء البول وإيحاء الكلاب هو الذي يضفي على استلهام الصورة التراثية إيحاءات موغلة في العمق بل مستفزة أحيانا. ومن الرموز التراثية التي تشير إلى معاني مستهلكة لكن الشعراء استطاعوا أن يتمثلوها ويعيدوا صياغتها مثل رموز: زرقاء اليمامة ، العنقاء، غربان البين وفكرة اليومين يوم للنحس ويوم للسعد .فقد كان مصطفى صوالح كالزرقاء يبصر الأرصفة في المساء قد صرت أبصر كالزرقاء أرصفة عند المساء فعاد الطرف حيرانا ([8]) لقد فقد الشاعر الأرصفة الكثيرة التي كان يبصرها لكنه يقف اليوم من أن يرى أملا للنجاة ، فاقتران البصر وحدته التي لم تأت الرزقاء إلا رمزا لحدة موغلة في عمق التراث الأدبي ، والصورة لا توحي بشيء كثير لولا وجود الأرصفة المفقودة في عتمة الليل، الأمر الذي يجعل استمداد الرؤيا من الأصالة والعمق استمدادا ايجابيا.وما يقال عن الزرقاء يقال عن غربان البين ، في قول بشير المثردي: كيف لا أصرخ والقصر تهاوى والتقى الغربان في الغاب زمر([9]) فصرح الأحلام الذي بناه الشاعر يتهاوى بفعل الصورة المأساوية التي رسمها بشعره وأملتها عليه ليالي الوطن الجريح،يبدو للشاعر أن غربان البين الصورة النمطية للغربان تتكرر كما في التراث ، عششت في ذلك الصرح ليتهاوى، بل في الغاب فلم يعد بإمكان الشعراء أن يلجئوا إليها ليجدوا كما كان يفعل الرومانسيون ملتمسين الحضن الدافئ.هذا على مستوى الصور واللغة الشعرية الموحية ، ورأينا أنها في صور وألفاظ متميزة تشير بوضوح إلى المصدر التراثي الشفوي وإن كان معظمها بشير إلى تراث مكتوب قديما ، وأن كان مصدره شفاهيا، فهو موغل في التراث العربي الأصيل الذي يعود إلى ما قبل الحضارة الذي جاء بها الدين الجديد. أما على مستوى الأفكار والمعتقدات فإن الشفاهية وموروثها يتجلى في عدة مواضع، من ذلك تكرار بعض معتقدات الرجل الشرقي التقليدية في أن المرأة ما خلقت إلا لتؤازر الرجل الذي يتكفل بكل بالقوامة أو المسؤولية أما هي فلا تتحمل معه تلك المسؤولية، فالمرأة لا ينبغي أن تنافس الرجل في إقامة الصرح الحضاري على حد قول بلول محجوب، إنما تستقبله آخر النهار لتزيل عن كاهله متاعب اليوم ومشاقه ، لتؤكد أن هؤلاء الكتابيين لم يتخلصوا بعد من الأفكار التقليدية الناتجة عن الثقافة الباطرياركية الموغلة في وعينا الجمعي: فلست أحتاج حواء تزاحمنا بل نحن نحتاج حواء تواسينا ([10]). كما يتجلى في توظيف أعمال التبصير والرؤية وقراءة الطالع ثم الخلطات التقليدية من أعشاب ومن عقاقير غريبة، توحي بالعقلية الترقيعية في العلاج المعتمد على كائنات ميتافيزيقية ، تتحكم في شؤون الإنسان قادرة على إذايته وشفائه في ذات الوقت ، والسعيد حرير يستلهم هذا الموروث الشفاهي التقليدي ليوظفه في الحديث عن الواقع المأساوي للبلاد والنزعة الفجائعية المتشائمة ، تبرر له أن يتراجع إلى الخلف ، ليشخص الداء : معانقة الوهم ، دخول الدهاليز، جر الجثث، رفض الأجيال السابقة وإرثها الحضاري ..،السفر إلى اليأس ....الخ من مظاهر الداء التي يقرؤها الشاعر على كف المأساة ،ليكشف لنا أن الأعراض مأساوية حقا، وان وسيلة الكشف جد تقليدية : قراءة الطالع، وقد كنا نفكر في أن يقفز بنا الشاعر إلى الأمام فإذا به يتولى القهقرى ليصف الدواء من جنس التشخيص وذلك في تكريس شديد للمأساة:أعصروا الأكباد من أقداحكمثم امزجوها برماد الثمر المحروق صيفاوبقايا التين والزيتونرشوها بدمع الطفل كي تمسي نبيذاواكذبوا قولوا لذيذا.واشربوا حتى الثمالة واتبعوا أهواءكم ميلوا يمينا وشمالا.....وارفضوا أن تسجدوا للطينوامضوا.... حسبكم ....لم تجدوا عنه البديلا..([11]) ولعل هذه الخلطة لا توحي إلا بعبثية المأساة الوطنية التي من صنع أبنائه،ويأس الشاعر، فالعلاج التي تقترح قراءة الكف أو القصيدة التي هي استبصار للمأساة الجزائرية، لا يزيد المأساة إلا عمقا.ثم إن مظاهر توظيف الثقافة الشفاهية لا يقتصر على تكرارها واجترارها أو استلهامها بوضوح من أجل إثارة أفكار ومشاعر وانطباعات الشعراء حول المسائل المطروحة كما رأينا عند حرير وبن عمر والمتردي ، إنما قد يتجاوزها المزج التام بين العناصر الشفاهية والكتابية بحيث لم يعد السهل الفرز بينهما. في هذه الأبيات للمتردي نلمح مظاهر شفاهية ممتزجة بمظاهر الكتابية: القراءة، الحروف ،الكتابة، الرواية الحكاية،القول والكلام ، ففي قصيدة بعنوان سنتان في سطور، يوحي الشاعر بقدرة الكتابة على التركيز والتماسك. ماذا أقول لها والقول يهزمني ينأى الكلام إذا ما قل واقتضبا والحرف مشكلة أخرى بقافيتي الحرف منفجر نون ..وما كتبا ........ هذي حروفي لك فلتقرئي أملا مدِّ اليدين إذن أو فاهجري الأدبا إني قرأت على كفيك خاتمة أن العذاب لمن ارتاح واضطربا فارو لدمعك بعدي أنني وطن لن تلتقيه وقد لقنته سببا وارو لدمعك بعدي أنني سفر كم بي يطول وإن أهديته الهدبا([12]) وعلى الرغم مما يوحي به العنوان ’’سنتان في سطور ‘‘ إي إمكانيات الكتابة في التركيز فهنا لا نكاد نجد فرقا يذكر بين الشفاهية والكتابية ، فكلاهما يهرب من الشاعر لا يطاوعه، لا يقدر على السيطرة عليها لاستخدامها ، هذا في باعتبارها وسائل اللغوية ، أما في الممارسات التقليدية الموروثة، فإن القراءة تتحول إلى تبصير ورجم بالغيب، (قراءة الكف –مرة أخرى.) والرواية ليس سوى ما درج عليه الأولون من سرد لأحداث الماضي من أجل التدبر والاعتبار . ويمكن أن نخلص في هذه العجالة،إلى أن الشعر الجزائر المعاصر –على الرغم من اعتماد الكتابة والثقافة الكتابية- لم يسلم من تأثير الثقافة الشفاهية،سواء أكان ذلك التأثير،عن وعي وإدراك ، وذلك بالقدرة على التمييز بين الثقافة الكتابية والثقافة الشفاهية الموروثة،أم بالمزج التام بينهما، وسواء أكان ذلك على مستوى التعبير أو على مستوى العادات والممارسات والأفكار ، وسواء كان ذلك بتكرار العناصر التراثية الشفاهية واجترارها ، أم باستلهامها رموزا فنية وتوظيفها لتعميق الدلالة ،وإمكانية القراءة التأويلية المتعددة.
[1] - يراجع في ذلك والتر أونج . الشفاهية والكتابية سلسلة عالم المعرفة الكويت
[2] - ينظر عبد الجليل مرتاض اللغة والتواصل
[3] - ينظر مصطفى يعلى : القصص الشعبي بالمغرب دراسة مورفولوجية الدار البيضاء2000 ص181
[4] - محمد الوهابي : التراث اللغوي الشفاهي هوية وتواصل مجموعة من الأبحاث صادرة عن كلية الآداب بالرباط ، تنسيق المصطفى الشادلي 2005 ص111.
[5] - مزوار للطباعة والنشر والتوزيع بإشراف الأستاذ عادل محلو 2005
[6] - صدر عن الرابطة الولائية للفكر والإبداع لولاية الوادي إشراف وتقديم الأستاذ بشير خلف 2007
[7] -عزف لفجر آت ص164.
[8] - وسابعهم وجهها ص 26.
[9] - المصدر نفسه ص 55.
[10] - المصدر نفسه ص21
[11] - عزف لفجر آت ،قراءة في كف مأساة ، ص53 وما يليها
[12] - وسابعهم وجهها ص57
. أما الثقافة الكتابية فهي لا تقتصر على معرفة الكتابة واستخدامها في تقييد المعلومات والكلمات المنطوقة إلى صورة خطية ، بل إن الكتابة تقنية متطورة طورت من وعي الإنسان بذاته وبالعالم من حوله ، وجعلته قادرا على الفصل بين الذات والموضوع ، والوقوف على مسافة واضحة منه، الأمر الذي تفتقر إليه الشفاهية التي هي أكثر اندماجا في الوعي الجمعي والبنيات الاجتماعية([1]). غير أن الفصل بين الثقافتين يمكن أن يكون فصلا تعسفيا ، أو على الأقل إجرائيا لتسهيل العمل المنهجي ليس إلا. ومن ثم فإن هؤلاء الباحثين لاحظوا أن الإنسان الفرد ، كما أن الحياة الإنسانية بعامة عرفت الشفاهية بمفردها ، ولم تكن في يوم من الأيام تعرف الكتابية بمعزل عن الشفاهية. وعلى ذلك فإن العمل الكتابي مهما ادعى التجرد من الثقافة الشفاهية أو البراءة منها ، فإن الافتراض الذي يؤكده الواقع أن آثار الشفاهية لابد أن تظل عالقة بهذا العمل الكتابي المنبثق عن ثقافة كتابية خالصة. ولا أدل على ذلك من وجود حروف الاستدراك والإضراب في الكتابية أو في أرقى اللغات الكتابية ،مثل لكن و بل وغيرها...([2]) وهي أدوات شفاهية محضة لأن الكتابة قادرة على تنقح ما شاءت دون أن ينتبه القراء فيما بعد إلى هذه التنقيحات، ولعل وجود آثار الشفاهية في اللغات الكتابية شيء طبيعي يدل على أصالتها وعمقها من حيث أنها غير قادرة على الاستغناء عن الشفاهية. وحين ننقل الحديث إلى مستوى أرقى أي إلى مستوى المعاني ،فالثقافة الشفاهية المعبرة عن الوجدان الجمعي والعمق العقل الباطني للمجتمع الإنساني، نعتبرها كما اعتبرها كثير من الباحثين مثل يونج تعبر عن الوعي الإنساني المبكر أو الطفولة الإنسانية، لذلك لا حظ العلماء في للدراسات الفولكلورية تشابها شديدا في الموروث الشعبي كالأساطير والحكايات الخرافية الموروثة في مجمل الثقافات الشعبية العالمية([3]). والمسألة التي نريد أن نقترب منها في هذه الورقة أن الشعر الجزائري المعاصر التي كتبه متعلمون ومثقفون متمكنون من الكتابة أو أن الكتابة هي التي تمكنت منهم ، يوظف - ولا شك - التراث الشفهي توظيفا رمزيا لإثراء الدلالة العميقة للنصوص الجديدة، فهل وصل هذا التوظيف إلى مستوى العمق الذي يطمح إليه الشعراء،ونعني بذلك أن تمتزج تجربة الشاعر بالرمز التراثي الشفهي لتستوحي منه تجربة جديدة تجعل له أبعادا وقراءات غير محددة موغلة في الثقافة من المعاصرة إلى العربية الإسلامية وحتى إلى الثقافة الإنسانية. والسبب في هذا الطرح هو أن الظواهر الشفاهية في الشعر المسمى فصيحا لم تكن محل احترام وتقدير من قبل النقاد التقليديين، بسبب افتراضهم معايير مرتبطة بالبلاغة والفصاحة التقليدية والنصوص النموذجية التي احتفى بها النقاد الأوائل،فإلى أي حد يمكن الاكتفاء بقراءة الفصيح بالفصيح والعالم بالعالم والشفاهي بالشفاهي، هكذا يتساءل أحد الأستاذ محمد الوهابي([4]). إن المجالين يتعايشان معا ويتكاملان فهما ليسا متناقضين وليس بينهما جدران سميكة ولا خصام أبدي إلا وفق تصور إيديولوجي لا علاقة له بالدرس العلمي الموضوعي. رصدنا في هذه المقاربة مجموعتين شعريتين اشترك فيهما ستة وعشرون شاعرا من مدينة الوادي ، الأولى بعنوان ’’ وسابعهم وجهها‘‘([5]) ويضم نصوصا لستة شعراء ، وأما الثانية فهو ’’عزف لفجر آت‘‘([6]) ويضم نصوصا لعشرين شاعرا، ولا نستطيع أن نزعم أن رصدنا للظواهر ومقاربتها كان موضوعيا خالصا ولم تتدخل فيه الذائقة الشخصية ، كما لا نستطيع أن ندعي أن هذا الرصد كان مسحا شاملا لكل النصوص والسبب في هذا و ذاك أن الحيز المتاح لنا لا يسمح بذلك، كما أن التحليل للنصوص الفنية يصعب استبعاد الذائقة الذاتية مهما ادعى لنفسه الموضوعية لاسيما من وجهة النظر هذه.إن استلهام الموروث الشفاهي يتراوح بين الغوص في عمق التراث الشفاهي العربي العريق وبين توظيف إشارات سريعة لألفاظ تحيل إلى ممارسات ثقافية شفهية كالحكي والرواية أو لعناصر واردة بكثرة في التراث الشفاهي كالغيلان والتنين والعنقاء...الخ .إلى توظيف معاني راسخة في تراثنا الشفوي بل في التراث الحضاري العربي الإسلامي بل حتى في التراث الإنساني ككل. ويمكن أن يكون التوظيف لمعنى بسيط يمكن فكه بسهولة إلى تعقيد شديد بحيث تختلط به عناصر عدة فيشتبك معها.فمن الأول التوظيف الإيجابي لفكرة الحكايات التي تدل على تجذر في الأرض ووجود أصالة وعمق الانتماء للمجتمع العربي الذي يمتلك هذه الحكايات مقابل المجتمع الصهيوني الذي لا يمتلك هذه الحكايات من ثم فهو دخيل على هذه الأرض ونبتة فطرية بلا جذور يقول أبوبكر مراد :ليس لكم هنا من باقية لأنكم مستنبتونلا تعرفون ما الأيام الخاليةلهذا يسأل صغاركم أطفالناعن الحكايا والأحاجي السالفةويغبطونهم عن هذه الأشعار الحالمة([7])كما يوظف فكرة الطفولة للإشارة إلى المستقبل، فمن لا ماضي له ولا تاريخ،لا مستقبل له ،ومن يمتلك الماضي والجذور ، يكون له مستقبل الأرض والوطن والإرث الحضاري ، فمع أن الفكرة بسيطة إلا أن توظيف إيجابي لعنصر التراث.الشفهي: الأحاجي والحكايات والأشعار...ومن استعمال رموز من التراث العربي الشفاهي الذي ورد في الشعر العربي القديم على الرغم من طابعه النمطي الذي يصادق علية النقاد الكلاسيكيين قول جرير : قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم قالوا لأمهم بولي على النار نجد الشاعر بن عمر ميداني، يستغل فكرة استنباح الكلاب ويرمز بها إلى استثارة الأفكار النيرة المنعشة التي تنتشر انتشار الرائحة الذكية ، لكن هذه الأفكار والدعوات قد تخيف لأول وهلة ؛ فالذي تخيفه قد تعود عليه بالخير العميم مثل كلاب الكرام حين تنبح لاستقبال الضيف،أما الكانون فهو النار والنور والدفء الذي يكون مرتعا لهذه الأنسام الرقيقة التي تترصد لها كثير من القيم المذمومة التي يفرضها الواقع الآسن لحياة الشاعر وأبناء جيله في فترة من أقسى ما مر به الوطن وجيل الشاعر والشعب برمته من محن بعد حرب التحرير، تلك التي كانت مقدسة يستقبل الشعب بلواها بصبر وتحدِّ،أما العهر والغبن في مرحلة الشاعر فإنها بالإضافة إلى رائحتها الخبيثة المناقضة لرائحة الأنسام، تطفئ الكانون الذي يشير إلى عتق التجربة وأصالتها، وعلى الرغم من تشظِّي الصورة (تفرقها في مواضع متباعدة) فإن طرفيها واضحان ووجه الشبه واضح أيضا إلا أن إيحاء البول وإيحاء الكلاب هو الذي يضفي على استلهام الصورة التراثية إيحاءات موغلة في العمق بل مستفزة أحيانا. ومن الرموز التراثية التي تشير إلى معاني مستهلكة لكن الشعراء استطاعوا أن يتمثلوها ويعيدوا صياغتها مثل رموز: زرقاء اليمامة ، العنقاء، غربان البين وفكرة اليومين يوم للنحس ويوم للسعد .فقد كان مصطفى صوالح كالزرقاء يبصر الأرصفة في المساء قد صرت أبصر كالزرقاء أرصفة عند المساء فعاد الطرف حيرانا ([8]) لقد فقد الشاعر الأرصفة الكثيرة التي كان يبصرها لكنه يقف اليوم من أن يرى أملا للنجاة ، فاقتران البصر وحدته التي لم تأت الرزقاء إلا رمزا لحدة موغلة في عمق التراث الأدبي ، والصورة لا توحي بشيء كثير لولا وجود الأرصفة المفقودة في عتمة الليل، الأمر الذي يجعل استمداد الرؤيا من الأصالة والعمق استمدادا ايجابيا.وما يقال عن الزرقاء يقال عن غربان البين ، في قول بشير المثردي: كيف لا أصرخ والقصر تهاوى والتقى الغربان في الغاب زمر([9]) فصرح الأحلام الذي بناه الشاعر يتهاوى بفعل الصورة المأساوية التي رسمها بشعره وأملتها عليه ليالي الوطن الجريح،يبدو للشاعر أن غربان البين الصورة النمطية للغربان تتكرر كما في التراث ، عششت في ذلك الصرح ليتهاوى، بل في الغاب فلم يعد بإمكان الشعراء أن يلجئوا إليها ليجدوا كما كان يفعل الرومانسيون ملتمسين الحضن الدافئ.هذا على مستوى الصور واللغة الشعرية الموحية ، ورأينا أنها في صور وألفاظ متميزة تشير بوضوح إلى المصدر التراثي الشفوي وإن كان معظمها بشير إلى تراث مكتوب قديما ، وأن كان مصدره شفاهيا، فهو موغل في التراث العربي الأصيل الذي يعود إلى ما قبل الحضارة الذي جاء بها الدين الجديد. أما على مستوى الأفكار والمعتقدات فإن الشفاهية وموروثها يتجلى في عدة مواضع، من ذلك تكرار بعض معتقدات الرجل الشرقي التقليدية في أن المرأة ما خلقت إلا لتؤازر الرجل الذي يتكفل بكل بالقوامة أو المسؤولية أما هي فلا تتحمل معه تلك المسؤولية، فالمرأة لا ينبغي أن تنافس الرجل في إقامة الصرح الحضاري على حد قول بلول محجوب، إنما تستقبله آخر النهار لتزيل عن كاهله متاعب اليوم ومشاقه ، لتؤكد أن هؤلاء الكتابيين لم يتخلصوا بعد من الأفكار التقليدية الناتجة عن الثقافة الباطرياركية الموغلة في وعينا الجمعي: فلست أحتاج حواء تزاحمنا بل نحن نحتاج حواء تواسينا ([10]). كما يتجلى في توظيف أعمال التبصير والرؤية وقراءة الطالع ثم الخلطات التقليدية من أعشاب ومن عقاقير غريبة، توحي بالعقلية الترقيعية في العلاج المعتمد على كائنات ميتافيزيقية ، تتحكم في شؤون الإنسان قادرة على إذايته وشفائه في ذات الوقت ، والسعيد حرير يستلهم هذا الموروث الشفاهي التقليدي ليوظفه في الحديث عن الواقع المأساوي للبلاد والنزعة الفجائعية المتشائمة ، تبرر له أن يتراجع إلى الخلف ، ليشخص الداء : معانقة الوهم ، دخول الدهاليز، جر الجثث، رفض الأجيال السابقة وإرثها الحضاري ..،السفر إلى اليأس ....الخ من مظاهر الداء التي يقرؤها الشاعر على كف المأساة ،ليكشف لنا أن الأعراض مأساوية حقا، وان وسيلة الكشف جد تقليدية : قراءة الطالع، وقد كنا نفكر في أن يقفز بنا الشاعر إلى الأمام فإذا به يتولى القهقرى ليصف الدواء من جنس التشخيص وذلك في تكريس شديد للمأساة:أعصروا الأكباد من أقداحكمثم امزجوها برماد الثمر المحروق صيفاوبقايا التين والزيتونرشوها بدمع الطفل كي تمسي نبيذاواكذبوا قولوا لذيذا.واشربوا حتى الثمالة واتبعوا أهواءكم ميلوا يمينا وشمالا.....وارفضوا أن تسجدوا للطينوامضوا.... حسبكم ....لم تجدوا عنه البديلا..([11]) ولعل هذه الخلطة لا توحي إلا بعبثية المأساة الوطنية التي من صنع أبنائه،ويأس الشاعر، فالعلاج التي تقترح قراءة الكف أو القصيدة التي هي استبصار للمأساة الجزائرية، لا يزيد المأساة إلا عمقا.ثم إن مظاهر توظيف الثقافة الشفاهية لا يقتصر على تكرارها واجترارها أو استلهامها بوضوح من أجل إثارة أفكار ومشاعر وانطباعات الشعراء حول المسائل المطروحة كما رأينا عند حرير وبن عمر والمتردي ، إنما قد يتجاوزها المزج التام بين العناصر الشفاهية والكتابية بحيث لم يعد السهل الفرز بينهما. في هذه الأبيات للمتردي نلمح مظاهر شفاهية ممتزجة بمظاهر الكتابية: القراءة، الحروف ،الكتابة، الرواية الحكاية،القول والكلام ، ففي قصيدة بعنوان سنتان في سطور، يوحي الشاعر بقدرة الكتابة على التركيز والتماسك. ماذا أقول لها والقول يهزمني ينأى الكلام إذا ما قل واقتضبا والحرف مشكلة أخرى بقافيتي الحرف منفجر نون ..وما كتبا ........ هذي حروفي لك فلتقرئي أملا مدِّ اليدين إذن أو فاهجري الأدبا إني قرأت على كفيك خاتمة أن العذاب لمن ارتاح واضطربا فارو لدمعك بعدي أنني وطن لن تلتقيه وقد لقنته سببا وارو لدمعك بعدي أنني سفر كم بي يطول وإن أهديته الهدبا([12]) وعلى الرغم مما يوحي به العنوان ’’سنتان في سطور ‘‘ إي إمكانيات الكتابة في التركيز فهنا لا نكاد نجد فرقا يذكر بين الشفاهية والكتابية ، فكلاهما يهرب من الشاعر لا يطاوعه، لا يقدر على السيطرة عليها لاستخدامها ، هذا في باعتبارها وسائل اللغوية ، أما في الممارسات التقليدية الموروثة، فإن القراءة تتحول إلى تبصير ورجم بالغيب، (قراءة الكف –مرة أخرى.) والرواية ليس سوى ما درج عليه الأولون من سرد لأحداث الماضي من أجل التدبر والاعتبار . ويمكن أن نخلص في هذه العجالة،إلى أن الشعر الجزائر المعاصر –على الرغم من اعتماد الكتابة والثقافة الكتابية- لم يسلم من تأثير الثقافة الشفاهية،سواء أكان ذلك التأثير،عن وعي وإدراك ، وذلك بالقدرة على التمييز بين الثقافة الكتابية والثقافة الشفاهية الموروثة،أم بالمزج التام بينهما، وسواء أكان ذلك على مستوى التعبير أو على مستوى العادات والممارسات والأفكار ، وسواء كان ذلك بتكرار العناصر التراثية الشفاهية واجترارها ، أم باستلهامها رموزا فنية وتوظيفها لتعميق الدلالة ،وإمكانية القراءة التأويلية المتعددة.
[1] - يراجع في ذلك والتر أونج . الشفاهية والكتابية سلسلة عالم المعرفة الكويت
[2] - ينظر عبد الجليل مرتاض اللغة والتواصل
[3] - ينظر مصطفى يعلى : القصص الشعبي بالمغرب دراسة مورفولوجية الدار البيضاء2000 ص181
[4] - محمد الوهابي : التراث اللغوي الشفاهي هوية وتواصل مجموعة من الأبحاث صادرة عن كلية الآداب بالرباط ، تنسيق المصطفى الشادلي 2005 ص111.
[5] - مزوار للطباعة والنشر والتوزيع بإشراف الأستاذ عادل محلو 2005
[6] - صدر عن الرابطة الولائية للفكر والإبداع لولاية الوادي إشراف وتقديم الأستاذ بشير خلف 2007
[7] -عزف لفجر آت ص164.
[8] - وسابعهم وجهها ص 26.
[9] - المصدر نفسه ص 55.
[10] - المصدر نفسه ص21
[11] - عزف لفجر آت ،قراءة في كف مأساة ، ص53 وما يليها
[12] - وسابعهم وجهها ص57